الأهمية الحضارية والنظرة المستقبلية لمرجعية الامام الخوئي (قده)

الأهمية الحضارية والنظرة المستقبلية لمرجعية الامام الخوئي (قده)

الأهمية الحضارية والنظرة المستقبلية لمرجعية الامام الخوئي (قده)
بحث ألقي في مؤتمر تأبين آية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي وأولاده الثلاث في الذكرى العشرين لرحيله قدس سره في مؤسسة الامام الخوئي بلندن يوم الأحد المصادف بـ: 8 كانون الثاني 2012م


عباس الامامي


المقدمة:
تتركز الأهمية الحضارية للمرجعية الدينية بالدرجة الأساس في القيمة العلمية التي تتصف بها، والقيمة العملية بما تقدمُ من جهودٍ في إعلاء كلمة الاسلام من ناحية ثانية، كانت وما تزال لدى الشيعة الحوزات العلمية التي تحتضن طلاب العلوم الدينية بامكاناتها المحدودة، حتى تخرَّج منها فطاحل العلماء والفلاسفة عبر الزمن، وأن التاريخ يشهد بجهود العلماء وجهادهم المرير وما قدموه من تضحيات جسام لحفظ كيان الاسلام، ونلقي الضوء على هذا الموضوع المهم من جانبين:

الجانب الأول: مكانة المرجعية الدينية: تختلف مؤسسة المرجعية الدينية عن أية مؤسسة أخرى من سياسية أو إجتماعية أوعلمية بما تمتلك من رصيد كبير من الثقة والاحترام في نفوس المسلمين الشيعة بالخصوص، وهناك عوامل عدة في هذا المجال ساهمت في هذا الرصيد منها:

العامل الأول: كون المرجعية ذات أهمية متميزة لدى الشيعة، وذلك لإرشادهم الى معالم الدين بصورة عامة، والتوصيات المتعددة والأكيدة لأئمة أهل البيت (ع) لأتْباعهم بالإرتباط بالفقهاء، ومنحهم الثقة، وتكريمهم وإطاعتهم بالعمل بتوجيهاتهم وارشاداتهم وفتاويهم، ومن هنا نهضت المرجعية الدينية بدور تمثيل الامام الثاني عشر الغائب حسب الاعتقاد الشيعي والنيابة عنه عليه السلام، وهذه النيابة او التمثيل تعطي قيمة حضارية ذات إلتزام ديني كبير في نفس المسلم الشيعي، وقد وردت نصوص دينية في هذا المجال تؤكد هذه النيابة، منها ما عن الامام المهدي«عجل الله فرجه» المشهور بالتوقيع الشريف: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)([1]).

العامل الثاني: عامل الظلامة الكبيرة التي تعرضت لها المرجعية الدينية أسوة بالأئمة الأطهار في تاريخها الطويل من قبل السلطات الحاكمة، والتي لم تتمكن من إخضاع فقهاء الشيعة لارادتها وقرارها السياسي.

وأن الامام الخوئي (المحتفى بذكرى وفاته في هذا اليوم) لم يُستثنَ من هذه الظلامة، فقد تعرض ما تعرض من ظلامات، سواءاً من قريب او من بعيد، كإحضاره الى بغداد من قبل الطاغية، وتعامل الطاغية صدام معه بروح وحشية وبعيدة عن الانسانية، إضافة الى إستشهاد أبنائه الثلاثة رحمهم الله، وقبله تعرُّضِ نجله الكبير المرحوم السيد جمال الدين الخوئي لمحاولة الاغتيال الغادرة، إضافة الى كل هذه الظلامات ما تعرضت شخصيته النزيهة الى تهم باطلة من ألسنة حادة (ثورية)!!!

العامل الثالث: إستقامة المرجعية على الخط الإلهي القويم عقائدياً وعلمياً وسياسياً، لا يخفى لأحد أننا لا ندعي الكمال المطلق للمرجعية الدينية، ومع ذلك فنجد أن أكثر مراجع الدين المعاصرين والمجتهدين في الحوزات العلمية المعاصرة هم عيالٌ على المحتفى به الامام ابو القاسم الخوئي، مضافاً الى أنَّ أكثر العلماء المتحمِّلين مسؤولية العمل الاسلامي وقيادة الساحة الاسلامية المعاصرة هم أيضاً من خريجي مدرسته وعلى رأسهم الامام الشهيد محمد باقر الصدر، وهذا يزيده فخراً واعتزازاً وأصالةً بأن جهوده العلمية والعملية قد أينعتْ وأثمرتْ، فان هذه العوامل وغيرها من العوامل الذاتية والموضوعية يمكن ان تكون قد منحت المرجعية مكانةً متميزةً وثقةً كبيرةً في نفوس أبناء المجتمع الشيعي والمحبة في قلوبهم.

الجانب الثاني: مواقف المرجعية في الأزمات: إستخدمت المرجعية الدينية دوماً مقامها المعنوي ومكانتها الاجتماعية القائمة في النفوس للخروج من كثيرٍ من الأزمات التي كانت تعيش بها الأمة، ومن الطبيعي جداً أنه لم يتحقق هذا التعاون والانسجام والولاء بين المرجعية والأمة، الا من خلال الايمان العميق على ما ورد من النصوص الدينية على وجوب حفظ مقام العلماء من ناحية، ووجوب أداء العلماء دورهم المنشود أزاء إحتياجات الأمة. فالطرفان قد بذلا جهداً كبيراً وتواصلاً شاقاً متبادلاً عبر الزمن في هذا المجال، كما في ثورة العشرين في العراق بقيادة العلماء والمجتهدين، وثورة التنباكو في ايران بقيادة الميرزا الشيرازي، ومحاربة الأفكار الضالة من قبل الامام محسن الحكيم، والثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني، والمواقف البطولية للصدرين الشهيدين بالتصدي للاستبداد البعثي، والمواقف المسدَّدة للامام الخوئي في مواجهة الظلم في العراق، والانتفاضة الشعبانية التي أبرزت الحكمة العملية والحنكة السياسية والنظرة المستقبلية للامام الخوئي رضوان الله عليه من خلال تعامله المسؤول والحكيم مع مجمل الأوضاع التي ظهرت في الساحة العراقية عام 1991م، وإدراكه الانساني والاسلامي والسياسي العميق في وجوب حفظ ممتلكات الدولة من قبل الثوار وعدم تعريض تلك الممتلكات الى الحرق والسرقة، شعوراً منه أن هذه الممتلكات هي أموال عامة ولا يجوز لأحد التعرض لها بسوء. إضافة لإختياره لجنة خاصة لإدارة شؤون الثورة الشعبانية وسد إحتياجات الثوار، وتقديم العون المادي اللازم لعوائلهم، ولعوائل المعارضة العراقية المتواجدة خارج العراق منذ أواخر السبعينات، ودعمه المالي المستمر للحركة الاسلامية في العراق، فإن كل هذه القضايا بجزئياتها وتفاصيلها بحاجة الى بحوث ودراسات أكاديمية لإطِّلاع الرأي العام على ما حدث من ظلم سلطوي بعثي تجاه علمائنا ومراجعنا وشعبنا ومؤسساتنا العلمية والانسانية، وإنتهاكها لحقوق الانسان في العراق، والمواقف الانسانية الحكيمة للمرجعية الدينية تجاه كل حدث من الأحداث التي يتعرض لها المجتمع.

وفي خضم كل هذه الظروف القاتمة ثبت الامام الخوئي بإيمان راسخ، وقلب قوي وشجاع أمام بطش صدام وجبروته كأجداده الطاهرين الذين ثبتوا امام بطش خلفاء الجور والممجَّـدين في كتب التاريخ، والتي تدرَّس لأبناء المسلمين في مدارس الدول الاسلامية جميعاً ومنها العراق!.

نعم قد يقول قائل في هذا السياق: لماذا لم يُصدِرْ السيد الخوئي بياناً يدين بشكل صريح ظلم وبطش صدام اللامحدود، وإنتهاكه لأبسط حقوق الانسان، مع علمه ويقينه بذلك وتعرُّضه شخصياً له؟

وقد يجاب بأن نظرة الشخص الذي يتحمل المسؤولية في أي موقع كان تختلف عن نظرة غيره حول حدث معين، والامام الخوئي كان يدرك بكل مشاعره بأن على عاتقه مسؤولية الاسلام، ولا سيما في العراق أمام ضلال الفكر البعثي العلماني من جانب، ومسؤولية التشيع في العالم من جانب ثانٍ، ومسؤولية حفظ الحوزة العلمية من الاندثار من جانب ثالث، ولو فرضنا جدلاً أن الامام الخوئي كان قد أصدر مثل هذا البيان، وكان رد فعل سلطة البعث إبادة جميع العلماء وطلاب العلوم الدينية في النجف الأشرف، وغَلَقَ الحوزة العلمية نهائياً، فماهي الفائدة المرجوة من مثل هذا البيان أو الفتوى أو الحكم؟

أشير هنا الى موقف مرجعي مماثل لموقف الامام الخوئي السياسي من تاريخ المرجعية الدينية؛ فحينما شرع الشيخ عبدالكريم الحائري بتأسيس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة وذلك في سنة 1340هـ / 1921م، وتزامن مع الايام الاولى لانقلاب الشاه رضا خان على أحمد شاه القاجاري، وبعد أن إستتبت الامور لرضا خان سـعـى وبـشـتـى الـوسائل لـلـقضاء على الحوزة العلمية الفتية, وفي هذا السياق نجد أن للشيخ الحائري موقفين متضادين إتخذ كلا منهما حسب المقتضيات الزمنية، ففي بداية تشكيله للحوزة العلمية نجد السياسة المرنة التي إتبعها تجاه تشدد رضاخان، ففي هذا المجال ينقل الشهيد السيد محمد باقر الحكيم ويقول : [ حينما تعرض هو وحوزته الفتية الى سياسة التنكيل والضغط من قبل الشاه رضا بهلوي طلب بعض المقرَّبين منه أن يتخذ موقفاً بهذا الصدد، فأجابهم: لو طلب منّي رضا خان أن أنزعَ عمامتي فسأنزعها، ويعلِّق الشهيد الحكيم على هذا الموقف قائلاً: هذا الموقف كبيرٌ جداً بالنسبة لمرجعٍ دينيٍّ أن يتخذها، ولكن مطالعة الموقف السياسي حينها، والأزمة السياسية التي كانت تمرُّ بها المرجعية والحوزة العلمية مع حكومة الشاه رضا بهلوي كان يوجب هذا النوع من التعامل لأجل المحافظة على كيان الحوزة العلمية] ([2])

إلا أنه بعد ما أصبحتْ ظروف الحوزة العلمية والمرجعية طبيعية، والْتفَّتِ الجماهير المؤمنة حولها، وبدأ الشاه رضا خان بتنفيذ سياسته العلمانية المضادة للدين بشتى صوره بدءاً من الـدعـوة للتحرر من القيود, وإنتهاك الحقوق المشروعة للمرأة المسلمة في إيران, وقطع الصلة بـيـن الامـة وزعمائها الدينيين، واجه الشيخ الحائري هذه السياسة البهلوية، فاشتهر عنه قوله: (سأقف ضد هذا القرار الى آخر نفسٍ من حياتي). وأرسل برقية الى الشاه جـاء فـيها: (لا أستطيع تحمّل ما سمعته من الممارسات المنافية للاسلام ولمذهب الشيعة, وسكوتي عن ذلك يعرّضني للمسؤولية امام اللّه سبحانه) وكان لهذا الموقف من قبل الشيخ الأثر البالغ في فشل رضا خان في تنفيذ كثير من مخططاته ضد الاسلام.

وفي هذا السياق فإن حكومة البعث في العراق قد إستعملت أقسى السياسات الظالمة تجاه الحوزة العلمية، وحالت بين الأمة وقيادتها الشرعية بشتى الوسائل القمعية، إضافة الى الدور السلبي للعَلَمانيين الشيعة من الفكر الاسلامي وعلماء الدين وجهلهم أو تجاهلهم بالحوزة العلمية والمواقف الوطنية للمرجعية الدينية، فحينما وجد السيد الخوئي لا يتمكن من مواجهة الأحداث السياسية من موقع القوة، وضع إهتمامه المسؤول في حفظ أساس الحوزة العلمية من الإنهيار الكامل، وكان رحمه الله حكيماً في هذه السياسة حيث ترك للعراق وللحوزة العلمية أثراً حكيماً كالامام السيد علي السيستاني حيث عايش الجميع حكمته ودوره من منع إنزلاق العراق الى فتنٍ لا تحمد عقباها منذ سقوط النظام البعثي، إضافة الى دوره المسؤول في التخلص من الاحتلال الأجنبي بإنسحاب قواته من العراق كاملاً، وذاك ما تشهد به وسائل الاعلام العالمية، دون العربية منه؟ا، والدور الايجابي للمرجعية الدينية في تقاطعات العملية السياسية الجارية في العراق منذ عام 2003م أمرٌ لا يمكن إنكاره من القريب والبعيد، إلاّ من كان في نفسه مآرب!.

فالمرجعية ليست موقعاً تشريفياًً، ولم تكن كذلك على مرّ العصور، وليست شأناً شخصياً يختص بشخصية المرجع، بل هي موقع شرعي عام ومسؤول، يتحمل المرجع فيه مسؤولية الأمة بكل تفاصيل هذه المسؤولية السياسية والاجتماعية والفكرية، ومسؤولية الإسلام في آفاقه الحضارية الكبرى، يعمل بإجتهاده وفكره وفهمه للساحة حسب مقتضيات الظروف الموضوعية لها، وعلى الأمة السير وفق خطاها وتطلعاتها الشرعية.

وأخيراً: إن ما عندنا من الفكر الاسلامي والقيم الحضارية ولا سيما ما يتعلق بمدرسة العترة الطاهرة هو من بركات جهود هذه السلسلة من العلماء الأتقياء الذين تحملوا مسؤلياتهم بعد الغيبة الصغرى بالذات، حيث سهروا الليالي بالعلم، وقضوا حياتهم في خدمة الاسلام بعيداً عن كل ضوضاء وزبارج الحياة، وحفظوا تراث الأئمة الأطهار وأوصلوه لنا بأيدٍ أمينة، وبِنَفَسِ الحب للاسلام، وبقلوبٍ ملؤها التقوى واليقين، وبعقول نيرة، وبروحٍ منتظرة لقدوم الامام المنتظر المهدي عجل الله فرجه الشريف، مثلُ كل واحدٍ منهم كمثلِ أنبياءِ بني إسرائيل.
________________________________________
[1] ـ المحقق السبزواري: محمد باقر بن محمد مؤمن، (المتوفي سنة 1009هـ)، كفاية الأحكام، ط1، ج1، ص82، طبع قم، 1305هـ. ش.
[2]ـ السيد الحكيم، محمد باقر: موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية، ج2، ص 168