الفقه بين شرعية الأصالة واستحقاقات المعاصرة

الفقه بين شرعية الأصالة واستحقاقات المعاصرة

الفقه بين شرعية الأصالة واستحقاقات المعاصرة

جعفر الحكيم
أستاذ في حوزة النجف
شباط/2009، صفر/1430


في البداية
فلسفيا هناك بعدان متوازيان يحكمان حركة البشر في تاريخه وجغرافيته، الثابت والمتغير. وقد كانت مهمة الفقه الرئيسة هي التوأمة بينهما بربط المتغير بالثابت وتسقيطه عليه ليكتسب شرعيته.
والذي حصل: أن المتغير ثابت في تغيره فهو مستمر ولكن في عالمنا المعاصر ظهر بشكل قفزات وتحولات سريعة سببت إرباكا في عملية التوأمة من جانب، وظهرت في ثنايا هذه التحولات الراكضة مناهج ودعوات ومرجعيات تلغي الثابت لنصبح أمام واقع يجد الفقه نفسه عاجزا في خطابه أو فتاواه أو تطبيقاته عن توأمتهما في الواقع الجديد، والذي هو واقع عقلاني عقلائي.
من هنا بات الفقه أمام مشكلة المعاصرة حيث اخذ يفقد مرجعيته في بعض الدوائر، ليأخذ هو بدوره بتصنيفها في المروق من الدين والخروج عليه. ويكرسها في دوائر أخرى لينتج مجاميع كبيرة شاذة بدء من تصوراتها ومرورا بقناعاتها وبسلوكياتها ومواقفها وانتهاء بزيها.

المدارس الفقهية وان اختلفت بيد أنها جميعا ترجع إلى محور واحد وهو القرآن بتفسير السنة وتعليقها، وقرينة العقل، وحركة العقلاء وتقنيناتهم.
فإذا أريد للفقه أن يبقى أصيلا لابد أن يحفظ مرجعياته وثوابته. وإذا أريد له أن يحفظ جمهوره وتابعيه لابد أن يكون معاصرا، فكانت المشكلة.

منهجيا
1-من الخطأ المنهجي أن تدعونا الحداثة إلى مراجعة الفقه التقليدي لتغطية إفرازاتها حيث يأخذ طابع التحميل على التعبد والذي هو ثابت كلامي. وقد يؤول إلى فصل الفقه عن التراث والذي هو مخ العملية الفقهية فيتحول إلى فقه وضعي بعد أن كان فقها دينيا.
إننا بحاجة إلى حراك فقهي يفرز الثابت عن المتغير أولا، ويعيد المتغير الجديد إلى الثابت بدلا من أن يحفظ المتغير على حاله.
وبحاجة إلى خطاب فقهي جديد يتجاوز أزمة اللغتين ومنطقي التفكير بين جيل الحداثة وبين لغة الفقه التقليدية.
وبحاجة إلى آليات جديدة تتجاوب مع المعاصرة وتغيراتها المتسارعة.
2- لأجل تفادي المعاصرة الفقهية المشوهة أو المجتزأة فضلا عن الممسوخة لابد أن يترافق البحث في الأصالة والمعاصرة في الفقه بالبحث فيهما في البنية العقلية التي يرتكز عليها الفقه / العقل النظري والعملي/ الفلسفي والكلامي.
وان يترافق أيضا بالبحث عنهما في البنية القانونية التي هي مرتكز آخر للفقه/ سيرة العقلاء ومرتكزاتهم.
وان يترافق ثالثا بالبحث في البنية التاريخية التي هي مرتكز ثالث/ الشهرة والإجماع والبحث الرجالي.
فالدين يبدأ بفكرة وينتهي بدار وكينونة، والفقه ينظم جانبا من هذه الحلقات ولا يغطيها جميعا.
3- واحدة من إفرازات المعاصرة أن وجدت فئة تتفقه وأخرى تشرع. فئة تتفقه وآخرون يحكمون بشريعتهم. فئة تتفقه ولكن بصوت مبحوح غير مسموع حيث لا تمتلك التغطية الإعلامية.
لأجل تفادي الترف الفكري ومضيعة الوقت والتجرد في الفكر وهزال المرجعية، علينا أن نبحث عن مقاربات بين السياسي والديني، وبين المشرع والديني، وبين الإعلام والديني، ونخرج من القطيعة التاريخية بل العزلة التي حشر الفقه فيها فضلا عن أن يتحول إلى أداة بيد صناع القرار لنتحول معه إلى وعاظ سلاطين.
المعاصرة هي حراك بشري في مختلف الصعد بشكل ثورة على التقاليد والأعراف والمرجعيات والخطاب التي كانت سائدة في حقب زمنية غابرة.
بل لابد من مراجعة شاملة لكل المنظومة العقدية والاجتماعية والاقتصادية ومقارنتها بما أنتجته المعاصرة من تقاليد وأعراف ثقافية واجتماعية وحياتية.
المعاصرة أنتجت وما زالت فلسفة جديدة وكلاما جديدا وفقها جديدا ورؤية كونية جديدة ونمطيات اجتماعية جديدة ولغة جديدة، بات المتدين معها مهددا بالمسخ الديني التقليدي، أو الانكفاء على الذات والعزلة، وفي أحسن أحواله بالازدواجية.
المشهد الذي أراقبه: أن الخطاب الديني أخذ ينحسر ليصبح نافذ المفعول في حدود طبقة الأميين وأنصاف المتعلمين وبعض النخب التي لا تريد المس بموروثها الديني وإلا ففي داخلها ألف سؤال وسؤال.
أخذ ينحسر في مستوى تنظيم العلاقة مع الآخرة/ الفقه الفردي، وهذا أيضا انحسر في ظل ظهور مرجعيات جديدة. كل هذا بعد أن صنع الدين حضارة أو دولة كبرى ليثبت قابليته للتطبيق وإمكانية التعايش مع المتغيرات بل ولو كانت بشكل منعطفات. وانه ليس أطروحة مثالية، تجريدية، نظرية بحتة.
وباتت المعاصرة ترفع من مستوى النخب كميا وكيفيا، وتستقطب البشر جماعات جماعات وعلى الأقل سياسيا واجتماعيا. ولم تدخل مع الدين في صراع كي نعرّف الجدلية بين الدين والمعاصرة أنها صراع ديني ديني، بل دخلت مع منهج التفكير وطريقة تناول الأشياء و...
نحن بحاجة إلى تأصيل معاصر لحفظ انتماء الإنسان وتشكيل نقط استقطاب واستثارة للفطرة كي لا يختزل التدين بانتماء اجتماعي وحس مجرد وتأمل بحت. وكي نتخلص من الشذوذات التي تشكل عبئا على الدين في الوقت الذي تعطي فرصة للتشكيك بالمقولات الدينية وصدقيتها.

آلية المعاصرة

الطريقة الأولى: استبدال المنهج القائم والمتمثل بأصول الفقه بمناهج أخرى في الفلسفة والألسنيات والهرمونتيك والتاريخ لتصوغ أصولا جديدا يرتكز عليه الفقه المعاصر.

الطريقة الثانية: هي التجديد من داخل الفكر الأصولي بإثارة جملة من البحوث ومراجعة أخرى علّنا نتوفر على مجال جديد في الاستنباط الفقهي.
وعلى سبيل المثال: التنظير للقرينة الحالية، وإعادة النظر في أصالة الثبات في اللغة، ومدى قدرة القدر المتيقن في الخارج على شل الإطلاق، وقوانين الحكم التدبيري، ورصد العناوين الثانوية التي يمكن الارتكاز عليها في عملية التغطية الشرعية لبعض الظواهر، والتنظير للمقاصد الشرعية، و اختصاص حجية الظهور بمن قصد إفهامه، وتحديد الصغرى في ذلك، مدى واقعية الظهور الموضوعي، تقييد حجية الظهور بالظن بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف، التأويل وحدوده، مراتب الحقيقة، لزوم فقه جديد، الشم الفقاهتي، جدلية العلاقة بين سيرة العقلاء والشريعة.
الطريقة الثانية تلتئم مع جملة الثوابت العلمية المتعارف عليها وتقلل من الطفرة التي تحدثها الطريقة الأولى والتي تعزل صاحبها عن المرجعية الرسمية للمتدين، في الوقت الذي ندعو لقراءة متأنية ونقدية في المناهج الجديدة حتى يتم غربلتها وتمييز السقيم منها عن المفيد.

نماذج المعاصرة/ دعوة للمراجعة:
التفكيك بين المقاومة والإرهاب
التفكيك بين الربا والاستثمار
التفكيك بين العمالة والشراكة السياسية
معالجة مشكلة الاندماج المجتمعي بين الجالية المسلمة والمجتمع الأوربي
معالجة مشكلة الفقر العميم
معالجة مشكلة تلوث البيئة والاحتباس الحراري
معالجة سباق التسلح وبالخصوص التسلح النووي
التنظير للحكومة المدنية
التعايش السلمي
تغطية منشور حقوق الإنسان
المواطنة والانتماء الديني
مدى شرعية الحاكم

في تقديري: إن تركيز مؤسساتنا وإصداراتنا وتجمعاتنا على العناوين الفقهية المشار إليها، ومن قبل الأصولية/ المعرفية أجدى بكثير من تناول مكرر لبعض العناوين التي أضحت مستهلكة ولم تصل إلى مستوى من القبول الفقهي والمعرفي ليتحول الكلام فيها من طرف إلى مجرد كلام ومن اجل الكلام أو ليخدم أغراضا سياسية أو أيدلوجيات معينة أو للتهريج والشعار. ومن طرف آخر إلى مجرد اجترار أو ذي نزعة تأويلية أو ترقيع فقهي مخنث. كموضوع الردة وحقوق المرأة في الميراث وعقوبة الإعدام وأمثالها مما استوفي البحث فيها سوى أن المتكلم لا يقرأ فيبقى يتكلم ومن دون نتيجة.